الخميس، 2 أبريل 2020

رواية سبع دقائق للكاتبه هاله ربيع

رواية سبع دقائق 
الكاتبه : هاله ربيع 


كنتُ مستلقيًا على مقعدٍ خشبيّ في حديقة المنزل المجاورة للطريق، رأيتُ كلَ شيء ..

رأيتهُم يتناثَرون أشلاءً، سمعتُ صوت انفجار تلك السيارة خلفي، شعرتُ بلهيبها يخترُق قلبي ولَم أُحرّك ساكنًا.

 "طاهِر" جارُنا العزيز كان يحترُق بالداخل رأسًا على عَقِب، بجوارِه "لُبنى" زوجتُه تقذف بيدِها خارج زجاج السيارة، يدُها التى تحول لونها للأسود، الأسود الملتهب، ترتجف، تصارِع شياطين اللهب، تحاول روحها الصعود، تتشبث بها لُبنى كقشةٍ تأملُ أن تقبلَ الأخذ بيدها قبل أن تقسِمَ ظهرها، وأخيرًا تفلتُ لبنى روحَها، تُهرولُ صعودًا، تصطدم بالكثير من الأرواح في طريقها، وأخيرًا تنفصل عنهم وتذهب، حيث يتساءَلون عن النبأِ العظيم، تَسكُن يدُ لُبني القابعة خارجَ زجاج السيارة أخيرًا، كادت تفقدني أعصابي، يجعلني الأمرُ أتساءَل إلى أيِّ مدىً كان الصراطُ بعيدًا؟

سمعتها وسط ذاك الصخب، وكأنهم يدقّون إزميلًا في أذني الوسطى، لم يسبِق وشاهدتُ منزلًا يفقد وعيَه ويسقط أرضًا محدثًا تلك الضجة، رأيتها رغم ما ظننتُه ضبابًا، ذاك التراب المتصاعد الذي يحول بيني وبين الجهةِ الأُخرى من العالم، سَمعتُ صرخات العمة فرحانة، كادت تخترق طبلة أذني كلماتُها المتلعثمة وهي تردد: "يومَ يفرّ المرء من أخيه، وأُمّهِ وأبيه و.."

 قبل سقوط كتلة هائلة من السقف المتهدّم مُسبقًا على رأسِها، كاتمةً آخر ما لفظته من أنفاس، يسقط بجوارها المُحَصّل يدعونَهُ السيد "زكريا كهرباء" هكذا يطلقون غضبهم، على الأسماء، أتساءَلُ ما آخر فكرةٍ طرأت في ذهن العمة فرحانة قبل أن ترحل؟

هل تركَ السيد "زكريا كهرباء" دجاجًا لحفيدِهِ "زيّن" الصغير؟، هل أحكمت العمة "فرحانة" غَلق زر الكهرباء بالمطبخ قبل هذا السقوط المدوي؟

كِدْتُ أغرق في تساؤلاتي لولا قاطعتني روح السيد "زكريا" صاعدَةً تلتقِي روحَ العمة "فرحانة"، تسلمها فاتورة الكهرباء التي تعدّت الخمسمائة جنيه قائلةً: "هذا الذي كنتُم توعَدون"، رُبما نَجت العمة "فرحانة" من فاتورة المياه فصنبور الحديقةِ لم يكَد يُغلَق.

كاد الأمرُ يصبح مروعًا، لو لم ألتفت يمينًا لأتفقدَ "عاليا" الصغيرة، لابدَّ أنها تلعبُ في مكانٍ ما خلف المنزل.

 ماذا لو دفَعَتْها دُميتها "فُلة" في حمام السباحة؟، ستغرق حتمًا لا أظن أنّها تجيد السباحة، لابد أن يسمَح لها "عامر" بالتجوال أكثر، يالَهُ من أبٍ حازِم، تكادُ تنطوِي على ذاتِها وهذا ليس بالأمر الجيد.

انتظرتُها، انتظرتُها مُطوَّلًا، لم تظهر "عاليا" بعد..

" إنها تَغرَق .. إنها .. تغرَق " قالها أحدُهُم مستغيثًا، حاوَلتُ التركيزَ أكثر على مصدَرٍ الصوت، إنها يدٌ أخرى ترتجِف، تلفظها رمالٌ متحركة تارة، وتارةً أخرى تحاول بَلع ما تبقى من أصابع مرتعشة، تقفزُ رأس "عامر" من وسط كَومةِ الرمال، تلوذُ بالبقاء، يُلَوّح لي راجيًا يائسًا يرددها ثانيةً: " إنها تغرَق، "عاليا"، إنها تغرَق".

وخَزَتْني أصابع قدمِي اليمنى وخزَةً تلقاها صدرِي كأن سكينًا تركَ قلبي ينزِف عاريًا في الهواءِ الطَلق، قاوَمتُ عقلي ورُحتُ أجول حول منزلِ "عامر"، يُثقلني عقلي بما لا ردَّ لَه، ها هو حمام السباحةِ أخيرًا، ها هي "فلة" ملقاةً على الأرض، مُبللةً بمياهٍ سوداء، مُغمضة العينين، يسكنُ جوارها ذاك المِعطف الأخضر الصغير، تتدلى منه أقمشة جيوبه، اعتادت "عاليا" أن ترتديه في ليالي الأعياد، تتراقصُ بهِ حولَ مائدة الفطور كل يوم ..

وهي تغني:" فُستاني أخضر، جميل مشجر، جابه لي بابا، من عمّي أنور".

تلمستُه ببطء، كانَ مبللًا هوَ الآخر، عقلي يقف على حافةِ عينيّ متصيدًا تلك الفكرة، يؤرجحها أمام ناظرَيّ، مستحيل! كيف تصعدُ "عاليا" دون فُستانها الأخضر، كيف سيأتي العيد؟.

خلعت حذائي وتأهبتُ للبحث عن "عاليا" في حوض السباحة، تمنّيت لو لم أكُن هُنا، لو أنصت "عامر" إليّ وذهب معي و"عاليا" للشاطيء، تمنيّت لو أنها لم ترتدِ معطفها الأخضر، لو أنها لم تكن ليلة العيد، لو أن السيد "زكريا كهرباء" ترك وظيفته، لو لم تنسَ العمة "فرحانة" صنبور مياهها، تمنيّت لو أنني لم أرَ يدَ لبنى تلك، لو أنها لم تتشبث بروحها، تمنيّت ألّا أجد "عاليا" بالداخل .. وقفزت.

***

"عمي أنوّر، عمي أنوّر" أتاني هذا النداءُ مُزَلزِلًا، أحسستُ ببرودة الماء على غيرِ وعيٍ وحاوَلتُ السباحة للأعلى، حاولت تحريكَ قدميّ، حاولتُ إقناعَ عقلي أنه ليس الوقت المناسبَ للتشبث بالأرض، أمسكتُ قدمي اليمنى وحاولتُ مرةً أخرى..

"عاليا" بخيّر، لابدّ أنها هيّ، تحركَت قدماي أخيرًا، سحبتُ جسدي للأعلى، لم يتبقَ سوى القليلُ بعد يا أنور، القليل ..
قفزَتْ يدي من الماء مرتجفةً، إنها خفيفةٌ بالأعلى، لا تستطيع حَمل ما تبقى من جسدي، حاولتُ تحريك يدي مستغيثًا، سمعتُ أصواتًا، لا أستطيع التمييز، إنها تُظلم ثانيةً، ولكنني أشعر بالدفء هذه المرة، كانت الأصوات تقترب، أكثر فأكثر، حتى سَكَنَ كلُ شيء.

لا أشعرُ بجسدي..
 يقتُلُني الإحساس بالفناء، أهكذا تأكلني الوِحدة؟؛ لا أدري كم من المشاعرِ تغذّت عليَّ حتى أصبحت فارغًا هكذا..
لم أرَ حمارًا بجواري كي أتيقنَ َكمْ لَبِثت..

تدغدغني لمساتٌ صغيرة في كتِفِي، أحسست بشيءٍ ماديّ أخيرًا، لم يتآكل كَتِفي بَعْد، أسمعُ تلك الهمهمات حولِي، وأخيرًا أُميّزُ صوتها هامسةً في أذني: " شكرًا لإنقاذكَ "فُلَّتِي" عمو أنور، لا يزال أبي غاضبًا منّي، لكنني أخبرتُه أنك ستكون بخير، وسنلعبُ الغميضة ثانيةً غدًا كما وعدتَني".

لا أستطيع السيطرة على أحبالي الصوتية من هُنا يا "عاليا"، ليتكِ تسمعين يا صغيرتي ..
تغمرني نسمة باردة، أحسست بجسدي مرةً أخرى، هكذا يجري الدمُ في عروقي إذًا، حاولتُ فكَّ تثاقلِ جَفنَيّ حتى واجهتُ الحياةَ ثانيةً، تمكنَ جسدي من الخروج أخيرًا ..

الجميع يستقبِلني بحفاوة..
يضحك "عامِر" ويجذبني إليه، يربت على كتفي ويصيح :" أخبرتكم أن أخي سيفعلها" ينظرُ إليّ :" حطَمت الدقائق السبع للسيد "زكريا كهرباء"، لم يستطِع الصمود تحت الماء أكثر من ست دقائق، أخبرتهم أنك لها يا أنور، هيا اذهب وارتدِ  ثيابك، إنه وقت الاحتفال"

ماذا عن الاحتفال الذي برأسي يا "عامر"؟
سبعُ دقائق مرّوا عليّ دهرًا.

 لبنى وطاهر يعدان الغداء، تجلس العمة "فرحانة" جوارَ السيد "زكريا كهرباء" متسائلةً عن فاتورة الشهر الفائت التي لم تصل لها ، متمنيةً ألّا تتراكم عليها إيصالاتها، تلتفت للوراء وتنظر لي بتوجس، ثم تصيح :" ألم يئِن لَك أن ترتدي ملابسَك بَعد يا أستاذ أنور؟ سيبرُد الغداء.."

تشيح بنظرها مرةً أخرى وتعود أدراجها مؤازرةً السيد "زكريا" في شئونه مع "زين" الصغير الذي ينهمك بلعب الغميضة مع "عاليا".

توجهتُ نحوَ كوخنا الصغير المقابل للشاطيء، حيث تركتُ ملابسي، تناولتُ قميصي ووضعتُه على جسدي، سقط منهُ شيءٌ ما في الرمال، أوه إنها " فُلة" دمية "عاليا" ، لابد أنها سقطت وهي تلعبُ الغميضة، تناولت الدمية وتوجهت نحو طاولة الغداء حيث يجتمعُون، سحبتُ كرسيًّا وجلست بجوار "عاليا" وعامر، ينتابني شعورٌ ما، لكنني سعيدٌ أن كل شيءٍ على ما يرام الآن.

يقترب السيد "زكريا" من الطاولة، يضعُ طبقًا أمام "زين" بيده اليمنى كاشفًا غطاءَه بيده اليسرى قائلًا :" أعددتُ طبقَ الدجاج المفضل لك صغيري ، ما رأيُك؟"
يخطف "زين" قطعة دجاجٍ بسرعة قبل أن تصل لها يد "عامر" فيضحك الثاني متهللًا.

نظرتُ لعاليا الصغيرة أعطيها دميتها، ابتسمت "عاليا" مُشيرةً لحقيبتها المفتوحة، فهمت أنها تريد أن أضع "فُلة" بداخلها، هممت بوضع الدمية في تلك الحقيبة الفارغة إلّا من ورقةٍ حمراء مهترءة وفستان ليلة العيد الأخضر المبلل، تساءلتُ لم تحتفظ "عاليا" بورقةٍ ما، أمسكتُ بالورقة أُقلّبها حتى وجهها الآخر، يا إلهي! إنها فاتورة الكهرباء التي لم تصل للعمة "فرحانة"..

تنظرُ إليّ "عاليا" مبتسمةً :"لا تذهَبْ إلى هناك ثانيةً عندما نلعب الغميضة".

                          بقلم الكاتبه :هاله ربيع 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

رحله عبر الزمن

  الطرق الصحيحة للبحث عن الآثار:  رحلة عبر الزمن يُعدّ البحث عن الآثار رحلةً مُثيرةً عبر الزمن، تهدف إلى الكشف عن أسرار الحضارات القديمة وفه...